جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
القول الرابع : أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال : تعرفونه، قالوا : نعم، فذهبوا بعيسى عليه السلام، قال : من أنت ؟
قال : أنا عيسى بن مريم، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام/ وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته.
المسألة الثالثة : المراد من قوله ﴿الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾ أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه.
أما قوله ﴿بِاللَّهِ فَإِذَآ﴾ فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه.
ثم قالوا :﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد لله تعالى أيضاً، ثم فيه قولان الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم.
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا :﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا : في الآية المتقدمة ﴿بِاللَّهِ فَإِذَآ﴾ ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا ﴿بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا﴾ وآمنوا برسول الله حيث، قالوا ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة : ١٤٣) الثاني : وهو منقول أيضاً عن ابن عباس ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى :﴿فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف : ٦).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام.
والقول الثالث :﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم، حيث قالوا ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر، وتقوية له، وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة.
القول الرابع : إن قوله ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مع الملائكة قال الله تعالى :﴿كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ﴾ (المطففين : ١٨) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس : إنه تعالى قال :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ﴾ (آل عمران : ١٨) فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس : إن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً صلى الله عليه وسلّم عن الإحسان فقال :"أن تعبد الله كأنك تراه" وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة/ فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾.


الصفحة التالية
Icon