فإن قيل : فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره، وهذا على خلاف قوله تعالى :﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ (النحل : ٦١) وكلمة ﴿لَوْ﴾ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا، وأيضاً قال تعالى :﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (غافر : ١٧) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم، لا في الدنيا، قلنا : الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمرر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
قلنا : بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم، فزال الإشكال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
المسألة الثالثة : وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة.
قلنا : المانع هو العهد، ولذلك إذا زال العهد حل قتله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾ بالياء، يعني فيوفيهم الله، والباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وهو الأولى لأنه نسق الكلام.
المسألة الثانية : ذكر الذين آمنوا، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً.
المسألة الثالثة : احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر، والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم.
المسألة الرابعة : المعتزلة احتجوا بقوله ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا : لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فقد يقال : أحب زيداً، ولا يقال : أريده، وأما إذا علقتا بالأفعال : فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة، فصار قوله ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه، وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما، وهو مبتدأ، خبره ﴿نَتْلُوهُ﴾ و﴿مِّنَ الايَاتِ﴾ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، و﴿نَتْلُوهُ﴾ صلته، و﴿مِّنَ الايَاتِ﴾ الخبر.
المسألة الثانية : التلاوة والقصص واحد في المعنى، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية، وفي قوله ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى ﴾ (القصص : ٣) وأضاف القصص إلى نفسه فقال :﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف : ٣) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى، وهذا تشريف عظيم للملك، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلى الله عليه وسلّم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة : قوله ﴿مِّنَ الايَاتِ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه، أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا /قارىء من كتاب أو من يوحى إليه، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ، فبقي أن ذلك من الوحي.
المسألة الرابعة :﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ فيه قولان الأول : المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه الأول : إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني : معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث : أنه بمعنى المحكم، فعيل بمعنى مفعل، قال الأزهري : وهو شائع في اللغة، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى، فرد إلى الأصل، ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى :﴿الارا كِتَابٌ﴾ (هود : ١) والرابع : أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة، فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل.


الصفحة التالية
Icon