القول الثاني : أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك، والله أعلم بالصواب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكان من جملة شبههم أن قالوا : يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال : إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم ؟
بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، هذا تلخيص الكلام.
ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى :﴿مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ (الرعد : ٣٥) أي صفة الجنة.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم، قال الزجاج : هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
المسألة الثالثة : اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية، وقال :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (النساء : ١) وقال :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (الأعراف : ١٨٩) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة أحدها : أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني : أنه مخلوق من الماء، قال الله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَه نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ (الفرقان : ٥٤) والثالث : أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى :﴿الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ا وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ (السجدة : ٧، ٨) والرابع : أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ (المؤمنون : ١١، ١٣) الخامس : أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى :﴿إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب ﴾ (الصافات : ١١) السادس : إنه مخلوق من صلصال قال تعالى :﴿إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر : ٢٨) السابع : أنه مخلوق من عجل، قال تعالى :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ (الأنبياء : ٣٧) الثامن : قال تعالى :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ﴾ (البلد : ٤) أما الحكماء فقالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه : الأول : ليكون متواضعاً الثاني : ليكون ستاراً الثالث : ليكون أشد التصاقاً بالأرض، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة : ٣٠) الرابع : أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام/ ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله ﴿إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ ثم إنه في المرتبة الرابعة قال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦


الصفحة التالية
Icon