المسألة الرابعة : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، فشكوا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى :﴿فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ (البقرة : ٢٢٠) قال أبو بكر الرازي : وأظن أنه غلط من الراوي، لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ (البقرة : ١٥٢) و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ (النساء : ١٠) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فاشتد ذلك على اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى شرابه، ﴿فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ فخلطوا عند ذلك طعامهم / بطعامهم وشرابهم بشرابهم. قال المفسرون : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع ماله اليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره" أي جنته، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"ثبت الأجر وبقي الوزر" فقالوا : يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟
فقال : ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده.
المسألة الخامسة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين، قال لأن قوله :﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ ﴾ مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن، شرط في وجوب دفع المال اليه، وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
أجاب أصحابنا عنه : بأن هذه الآية عامة، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة/ ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى ﴾ (النساء : ٦) وبقوله :﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ (النساء : ٥) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : ولا تتبدلوا، أي ولا تستبدلوا، والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. وقال الواحدي رحمه الله : يقال : تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه.
المسألة الثانية : في تفسير هذا التبدل وجوه :
الوجه الأول : قال الفراء والزجاج : لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض، فتأكلوه مكانه. الثاني : لا تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون، يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، وطعن صاحب "الكشاف" في هذا الوجه، فقال : ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. الرابع :/ هو أن هذا التبدل معناه : أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب.
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى ا أَمْوَالِكُمْ ﴾ وفيه وجهان : الأول : معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها. والثاني : أن يكون "إلى" بمعنى "مع" قال تعالى :﴿مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه ﴾ (آل عمران : ٥٢) أي مع الله، والأول : أصح.
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل، فثبت ان المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
فان قيل : انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم ؟
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢


الصفحة التالية
Icon