الوجه الثاني : في تأويل الآية : انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث : في التأويل : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع : في التأويل : ما روي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون / عنده الأيتام، فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى ﴾ عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف/ فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال : فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.
أما قوله تعالى :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَا فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا ﴾.
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن قوله ﴿فَانكِحُوا ﴾ أمر، وظاهر الأمر للوجوب، وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم﴾ (النساء : ٢٥) الى قوله :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُم وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب، فضلا عن أن يقال إنه واجب.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
المسألة الثانية : إنما قال :﴿مَا طَابَ﴾ ولم يقل : من طاب لوجوه : أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟
فيقول رجل أو امرأة، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك، وما تلك الحقيقة التي عندك، وثانيها : أن (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء، وثالثها : ان "ما" و"من" ربما يتعاقبان. قال تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ (الشمس : ٥) وقال :﴿وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ (الكافرون : ٢) وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد، وقال :﴿فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه ﴾ (النور : ٤٥) ورابعها : إنما ذكر "ما" تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء. ومنه : قوله :﴿إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ﴾ (المعارج : ٣٠).
المسألة الثالثة : قال الواحدي وصاحب "الكشاف" : قوله ﴿مَا طَابَ لَكُم﴾ أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها، وهي الأنواع المذكورة في قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ وَبَنَـاتُكُمْ﴾ (النساء : ٢٣) وهذا عندي فيه نظر، وذلك لأنا بينا أن قوله :﴿فَانكِحُوا ﴾ أمر إباحة. فلو كان المراد بقوله :﴿مَا طَابَ لَكُم﴾ أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة، وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة، لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب، كانت الآية عاما دخله التخصيص. وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا.
المسألة الرابعة :﴿مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ ﴾ معناه : اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وهو غير منصرف وفيه وجهان : الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا، وأما أنه وصف، فدليله قوله تعالى :﴿أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ ﴾ (فاطر : ١) ولا شك أنه وصف.


الصفحة التالية
Icon