واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول : الخبر، وهو ما روي ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم : أمسك أربعا وفارق باقيهن، وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام :"أمسك أربعا وفارق واحدة".
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز. والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز، إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد، وفيه سؤالان : الأول : أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ، فكيف يقال : الاجماع نسخ هذه الآية. الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع، والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
والجواب عن الأول : الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعن الثاني، أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.
فان قيل : فاذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع، فلم جاء بواو العطف دون "أو" ؟
قلنا : لو جاء بكلمة "أو" لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين، ولبعض / آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا ههنا الفائدة في ترك "أو" وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة السابعة : قوله :﴿مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ ﴾ محله النصب على الحال مما طاب، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
قوله تعالى :﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ ﴾.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر/ ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهم أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
المسألة الثانية : قرىء ﴿فَوَاحِدَةً﴾ بنصب التاء والمعنى : فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا، فان الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به، وقرىء ﴿فَوَاحِدَةً﴾ بالرفع والتقدير : فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
المسألة الثالثة : للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، كما اذا قال الطبيب : كل التفاح أو الرمان، فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية، فكذلك العقل يدل عليها، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما اذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري، واذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان. فنقول : أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح ؛ لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا ﴾ وفيه مسألتان.
المسألة الأولى : المراد من الادنى ههنا الاقرب، والتقدير : ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف "من" لدلالة الكلام عليه.


الصفحة التالية
Icon