المسألة الثانية : في تفسير ﴿أَلا تَعُولُوا ﴾ وجوه : الأول : معناه : لا تجوروا ولا تميلوا، / وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين، وروي ذلك مرفوعا، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله :﴿ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا ﴾ قال :(لا تجوروا) وفي رواية أخرى "أن لا تميلوا" قال الواحدي رحمه الله : كلا اللفظين مروي، وأصل العول الميل يقال : عال الميزان عولا، اذا مال، وعال الحاكم في حكمه اذا جار، لانه اذا جار فقد مال. وأنشدوا لأبي طالب.
بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم، فقال له : أتعول علي، ويقال : عالت الفريضة اذا زادت سهامها، وقد أعلتها أنا اذا ازدت في سهامها، ومعلوم أنها اذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل، ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم. فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون.
الوجه الثاني : قال بعضهم : المراد أن لا تفتقروا، يقال : رجل عائل أي فقير، وذلك لأنه اذا قل عياله قلت نفقاته، واذا قلت نفقاته لم يفتقر.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال :(ذلك أدنى أن لا تعولوا} معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما، فأما تفسير معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما/ فأما تفسير ﴿تَعُولُوا ﴾ بتعيلوا فانه خطأ في اللغة، وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والاماء في العيال بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال. وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا، وهو أنه تعالى قال في أول الآية :﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ ولم يقل أن تفتقروا، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل، وذلك هو الجور لا كثرة العيال. وأنا أقول :
أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين اذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف، وأيضا : فمن الذي / أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين، وكيف لا نقول ذلك، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ : ذلك أدنى أن لا تعيلوا، واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.
وأما السؤال الثاني : فنقول : انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام، وشدة بلادتك، ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد، وبيان فساده من وجوه : الأول : أنه يقال : عالت المسألة اذا زادت سهامها وكثرة، وهذا المعنى قريب من الميل لانه اذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة واذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا، واذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢


الصفحة التالية
Icon