الوجه الثاني : ان الانسان اذا قال : فلان طويل النجاد كثير الرماد، فاذا قيل له ما معناه ؟
حسن أن يقال : معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى. وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض، وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الاشارة الى الشيء بذكر لوازمه، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور، فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله، والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة، بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.
الوجه الثالث : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله يعولهم. كقولهم : مانهم يمونهم اذا أنفق عليهم، لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن، وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو / مملوكة فجوابه من وجهين : الأول : ما ذكره القفال رضي الله عنه، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال أما اذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق. الثاني : ان المرأة اذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها، أما اذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فانها لا تطالبه بالمهر، فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.
وأما السؤال الرابع : وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم، فالجواب عنه من وجهين : الأول : ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح، لانه لو حمل على الجور لكان تكراراً لانه فهم ذلك من قوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا ﴾ أما اذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى. الثاني : أن نقول : هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول، لكن على سبيل الكناية والتعريض، واذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال، فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٢
٤٩١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَءَاتُوا النِّسَآءَ﴾ خطاب لمن ؟
فيه قولان : أحدهما : ان هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الاعرابي : النافجة يأخذه الرجل من الحلوان اذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق الى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
القول الثاني : ان الخطاب للأزواج. أمروا بايتاء النساء مهورهن، وهذا قول : علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج، قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.
المسألة الثانية : قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى :﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ﴾ (التوبة : ٢٩) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني :/ كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلّم في الموهوبة، ثم قال رحمه الله : ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" :﴿صَدُقَـاتِهِنَّ﴾ مهورهن، وفي حديث شريح : قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ ﴿صَدُقَـاتِهِنَّ﴾ بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و﴿صَدُقَـاتِهِنَّ﴾ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة، وقرىء ﴿صَدُقَـاتِهِنَّ﴾ بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة : ظلمة، قال الواحدي : موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة، فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل.


الصفحة التالية
Icon