المسألة الرابعة : في تفسير النحلة وجوه : الأول : قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد : فريضة، وإنما فسروا النحلة بالفريضة، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب، يقال : فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه، فقوله :﴿وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ أي آتوهن مهورهن، فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة. الثاني : قال الكلبي : نحلة أي عطية وهبة، يقال : نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا، قال القفال : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله، يقال : هذا شعر منحول، أي مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن ؟
فيه احتمالان : أحدهما : أنه عطية من الزوج، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك، وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
والقول الثالث : في تفسير النحلة قال أبو عبيدة : معنى قوله ﴿نِحْلَةً ﴾ أي عن طيب نفس، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله/ وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس، فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.
المسألة الخامسة : إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولا له، والمعنى آتوهن مهورهن ديانة. والثاني : أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه، وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان : أحدهما : أنه نصب / على المصدر، وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء، فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم. والثاني : أنها نصب على الحال، ثم فيه وجهان : أحدهما : على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء. والثاني : على الحال من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.
المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الخلوة الصحيحة تقرر المهر، وقال الشافعي رضي الله عنه : لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية.
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى :﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ (البقرة : ٢٣٧) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
قوله تعالى :﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : نفسا : نصب على التمييز والمعنى : طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا : أنت حسن وجها، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل، ومثله : قررت به عيناً وضقت به ذرعا.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
المسألة الثانية : إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما. قال الفراء : لو جمعت كان صوابا كقوله :﴿بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا﴾ (الكهف : ١٠٣).
المسألة الثالثة : من : في قوله :﴿مِنْهُ﴾ ليس للتبعيض، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله :﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ﴾ (الحج : ٣٠) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية.
المسألة الرابعة : منه : أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى :﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ ﴾ (آل عمران : ١٥) بعد ذكر الشهوات. وروي أنه لما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق


الصفحة التالية
Icon