المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى :﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ ﴾ (الإسراء : ٢٦ ـ ٢٧) وقال تعالى :﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ (الإسراء : ٢٩) وقال تعالى :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ﴾ (الفرقان : ٦٧) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضاً يؤيد ذلك، لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما / من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.
المسألة الخامسة : قوله تعالى :﴿الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا﴾ معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر ﴿الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا﴾ وقد يقال : هذا قيم وقيم، كما قال :(دينا قيما ملة إبراهيم) وقرأ عبدالله بن عمر (قواما) بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك : ملاك الأمر لما يملك به.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
المسألة السادسة : قال الشافعي رحمه الله : البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يحجر عليه. حجة الشافعي : أنه سفيه، فوجب أن يحجر عليه، إنما قلنا إنه سفيه، لأن السفيه في اللغة، هو من خف وزنه. ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة، فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء، فكان خفيف الوزن عندهم، فوجب أن يسمى بالسفيه، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى :﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا﴾.
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء : أولها : قوله :﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ ومعناه : وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال : فلان رزق عياله أي أجرى عليهم، وإنما قال :﴿فِيهَآ﴾ ولم يقل : منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال، وثانيها : قوله :﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ والمراد ظاهر، وثالثها : قوله :﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا﴾.
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها : أحدها : قال ابن جريج ومجاهد : انه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : اذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله، وان غنمت في غزاتي أعطيتك، وثانيها : قال ابن زيد : انه الدعاء مثل أن يقول : عافانا الله وإياك بارك الله فيك، وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر، وثالثها : قال الزجاج : المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، ورابعها : قال القفال رحمه الله القول المعروف / هو أنه ان كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له، وأنه اذا زال صباه فانه يرد المال اليه، ونظير هذه الآية قوله :﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ (الضحى : ٩) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله :﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا﴾ (الإسراء : ٢٨( وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والاسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١


الصفحة التالية
Icon