ثم قال تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ﴾ أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال :﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ قال الواحدي رحمه الله : استعف عن الشيء وعف اذا امتنع منه وتركه، وقال صاحب "الكشاف" : استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال :﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟
وفي هذه المسألة أقوال : أحدهما : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه : الأول : أن قوله تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا﴾ مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وثانيها : أنه قال :﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فقوله :﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله :﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة، وثالثها : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ (النساء : ١٠) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف، ورابعها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن رجلا قال له : ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله ؟
قال : بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال : أفأضربه ؟
قال : مما كنت ضاربا منه ولدك، وخامسها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم أما بعد : فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبدالله ابن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم : من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله ؟
قال : إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا : يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها/ وسادسها : أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا ههنا، فهذا تقرير هذا القول.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
والقول الثاني : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال :﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ فحكم في الأموال بدفعها اليهم.


الصفحة التالية
Icon