فان قيل : لا يجوز أن يقال : إن المرتد زال ملكه في آخر الاسلام وانتقل إلى الوارث، وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر.
قلنا : لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته، والأول باطل، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى :﴿إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ﴾ (المؤمنون : ٦) وهو بالاجماع باطل. والثاني : باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى ههنا إلا أن يقال : إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، إلا أن القول بالاستناد باطل، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي، وذلك باطل في بداهة العقول، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد، وقد أبطلناه والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
الموضع الرابع : من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام :"نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ ﴾ وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، ثم ان الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على خلاف قوله تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام ﴿يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾ (مريم : ٦) وقوله تعالى :﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ ﴾ (النمل : ١٦) قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسباً جديداً مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة، وثانيها : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة/ وثالثها : يحتمل أن قوله :"ما تركناه صدقة" صلة لقوله :/ "لا نورث" والتقدير : أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث.
فان قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.
قلنا : بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب : أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم.
المسألة الثامنة : من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ ﴾ معناه للذكر منهم، فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم، كقولك : السمن منوان بدرهم، والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾ المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن، وقوله :﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان، وأن يكون صفة لقوله :﴿نِسَآءً﴾ أي نساء زائدات على اثنتين. وههنا سؤالات.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
السؤال الأول : قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ ﴾ كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف يحسن إرادته بقوله :﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ وهو لبيان حظ الاناث.
والجواب من وجهين : الأول : أنا بينا أن قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ ﴾ دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده :﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾ على معنى : فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت، فثبت أن هذا العطف متناسب. الثاني : أنه قد تقدم ذكر الأنثيين، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
السؤال الثاني : هل يصح أن يكون الضميران في "كن" و"كانت" مبهمين ويكون "نساء" و"واحدة" تفسيراً لهما على ان "كان" تامة ؟
الجواب : ذكر صاحب "الكشاف" : أنه ليس ببعيد.
السؤال الثالث : النساء : جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين ؟


الصفحة التالية
Icon