واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان، وعثمان ما أنكره، وهما كانا من صميم العرب، ومن علماء اللسان، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين : الأول : أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه، واحتجوا فيه بوجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ (التحريم : ٤) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد، وثانيها : قوله تعالى :﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ والتقييد بقوله : فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين، وثالثها : قوله :"الاثنان فما فوقهما جماعة" والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين/ الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين، وإنما الموجب لذلك هو القياس، وتقريره أن نقول : الأختان يوجبان الحجب، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا، إنما قلنا إن الأختين يحجبان، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة، فثبت أن الأختين يحجبان، واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين، لأنه لا قائل بالفرق، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع، ويمكن أن يقال : لا يتمسك به على طريقة القياس، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم، واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس، والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم.
المسألة الثانية : الاخوة اذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة، بل / يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس، سدس بالفرض، والباقي بالتعصيب، وقال ابن عباس : الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين، كما كان قبل ذلك والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
قوله تعالى :﴿مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ﴾.
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين، قال :﴿السُّدُسُا مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله.
المسألة الثانية : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين، وإن الرسول صلى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة "أو" لا تفيد الترتيب ألبتة.


الصفحة التالية
Icon