فقوله : ذو الشنان على التخفيف كقولهم : إني ظمان، وفلان ظمان، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها.
المسألة الخامسة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم. قال محمد بن جرير الطبري : وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدماً لا محالة على نزول هذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئاً من محارمه إن الله شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٧٩
٢٨٣
قوله تعالى :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا﴾.
اعلم أنه تعالى قال في أول السورة ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ﴾ (المائدة : ١) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعاً : الأول : الميتة : وكانوا يقولون : إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله.
وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جداً، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة. والثاني : الدم : قال صاحب "الكشاف" كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فالله تعالى حرم ذلك عليهم. والثالث : لحم الخنزير، قال أهل العلم : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي، فلا بدّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. الرابع : ما ىهل لغير الله به، والإهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح : باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك. والخامس : المنخنقة، يقال : خنقة فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
وأعلم أن المنخنقة على وجوه : منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام.
وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه. والسادس : الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال : وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات، وهي أيضاً في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها. السابع : المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك. قال تعالى :﴿لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُه ا إِذَا تَرَدَّى ﴾ (الليل : ١١) أي وقع في النار، ويقال : فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضاً من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم. والثامن : النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت/ وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضاً داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم.
وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني : المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل : حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل.
فإن قيل : لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم : كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل.
قلنا : إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول : رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة، والتاسع : قوله ﴿وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ وفيه مسائل :