المسألة الثانية : الأزلام القداح واحدها زلم، ذكره الأخفش. وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت. ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفاً قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكُمْ فِسْقٌ ﴾ وفيه وجهان : الأول : أن يكون راجعاً إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصراً عليه. والثاني : أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه راداً على الله تعالى كفر.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
فإن قيل : على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقاً ؟
أليس أنه صلى الله عليه وسلّم كان يحب الفأل، وهذا أيضاً من جملة الفأل فلم صار فسقاً ؟
قلنا : قال الواحدي : إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى :﴿وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ﴾ (لقمان : ٣٤) وقال ﴿قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّه ﴾ (النمل : ٦٥) وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة".
ولقائل أن يقول : لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلباً لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيباً أو كفراً لأنه طلب للغيب/ ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفراً لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضاً فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علماً وإنما يستفيد من ذلك ظناً ضعيفاً، فلم يكن ذلك داخلاً تحت هذه الآيات. وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقاً وكفراً، وهذا القول عندي أولى وأقرب.
قوله تعالى :﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾.
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله ﴿ذَالِكُمْ فِسْقٌ ﴾ والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ فيه قولان : الأول : أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله : كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
والقول الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلّم واقف بعرفات على ناقته العضباء.
المسألة الثانية : قوله ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ فيه قولان : الأول : يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة. والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى :﴿لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ﴾ (التوبة : ٣٣) (الفتح : ٢٨) (الصف : ٩) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى.
المسألة الثالثة : قال قوم : الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها.
ثم قال تعالى :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon