المسألة الأولى : في الآية سؤال وهو أن قوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يقتضي أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى الله عليه وسلّم مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة.
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوهاً : الأول : أن المراد من قوله ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم/ وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهراً كلياً : اليوم كمل ملكنا، وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصاً. الثاني : أن المراد : إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز. الثالث : وهو الذي ذكره القفال وهو المختار : أن الدين ما كان ناقصاً، البتة، بل كان أبداً كاملاً، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم، وأما في رخر زمان المبعث فأنزل الله سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبداً كان كاملاً، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
المسألة الثانية : قال نفاة القياس : دلت الآية على أن القياس بالطل، وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملاً، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثاً، وإن كان على خلافه كان باطلاً.
أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها، والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بياناً لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالاً للدين. قال نفاة القياس : الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة، فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته، فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة، إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحداً، والمخالف يكون مستحقاً للعقاب، وينقض قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك، وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكيناً لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا، وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالاً للدين، بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات، قال مثبتو القياس : إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالاً للدين، ويكون كل مكلف قاطعاً بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال.
المسألة الثالثة : قال أصحابنا : هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة، وذلك لأنه تعالى بيّن أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين، وأكد ذلك بقوله ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾ فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصاً عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله صلى الله عليه وسلّم نصاً واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية، فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل لم يجر لهذا النص ذكر، ولا ظهر منه خبر ولا أثر، علمنا أن ادعاء هذا النص كذب، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصاً عليه بالإمامة.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣