المسألة الرابعة : قال أصحاب الآثار : إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً/ أو اثنين وثمانين يوماً، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة، وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً، ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال : هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، فكان ذلك دليلاً على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره.
المسألة الخامسة : قال أصحابنا : دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده، والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضاً منه.
واعلم أنا سواء قلنا : الدين عبارة عن العمل، أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة، أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر.
وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه، ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز.
ثم قال تعالى :﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال : اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.
واعلم أن هذه الآية أيضاً دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى، وذلك لأنا نقول : الدين الذي هو الإسلام نعمة، وكل نعمة فمن الله، فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله.
إنما قلنا : إن الإسلام نعمة لوجهين : الأول : الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم : الحمد لله على نعمة الإسلام.
والوجه الثاني : أنه تعالى قال في هذه الآية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ ذكر لفظ النعمة مبهمة، والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم، أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
قلنا : أما الأول فقد عرف بقوله ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ فحمل هذه الآية عليه أيضاً يكون تكريراً.
وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماماً للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة، فثبت أن دين الإسلام نعمة.
وإاذ ثبت هذا فنقول : كل نعمة فهي من الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه ﴾ وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده.
ثم قال تعالى :﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا ﴾ والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى :﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾.
ثم قال تعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.