وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله ﴿ذَالِكُمْ فِسْقٌ ﴾ إلى ههنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة/ والمخمصة المجاعة. قال أهل اللغة : الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن. يقال : رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ﴾ أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل، قال تعالى :﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ (البقرة : ١٨٢) أي ميلاً، فقوله غير ﴿مُتَجَانِفٍ﴾ أي غير مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب ﴿غَيْرَ﴾ بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله ﴿اضْطُرَّ﴾ ويكون المقدر متأخراً على معنى : فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم، ومعنى الإثم ههنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذاً، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصياً بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ (البقرة : ١٧٣) وقوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٩٠
قوله تعالى :﴿يَسْاَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ وهذا أيضاً متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ﴿مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ كأنه قيل : يقولون لك ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه.
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان لكيفية الواقعة.
المسألة الثانية : قال الواحدي :﴿مَاذَآ﴾ إن جعلته اسماً واحداً فهو رفع بالابتداء، وخبره ﴿أَحَلَّ﴾ وإن شئت جعلت ﴿مَآ﴾ وحدها اسماً، ويكون خبرها ﴿ذَا﴾ و﴿أَحَلَّ﴾ من صلة ﴿ذَا﴾ لأنه بمعنى : ما الذي أحل لهم.
المسألة الثالثة : أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ (الأعراف : ٣٢) وبقوله ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف : ١٥٧).
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضاً طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات ههنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية : قل أحل لكم المحلللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير : أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٠