ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى :﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة : ٢٩) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف ؛ ١٥٧) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلاً كبيراً، وقانون مرجوعاً إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح. حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب، والعلم به ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً لقوله ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح، وعند أبي حنيفة حرام، حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ، فوجب أن يحل لقوله ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ ويدل أيضاً على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى :﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر، وقد حصل ذلك في الخيل، فوجب أن تكون مذكاة، فوجب أن تحل لعموم قوله ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾. (المائدة : ٣) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضاً حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسياً فهي مذكاة، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءاً من ماهية الذكاة، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكناً، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ ومنها أن لحم الحمر الأهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : الأول : أن فيها إضماراً، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه، وهو قوله ﴿فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾. الثاني : أن يقال إن قوله ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ ابتداء كلام، وخبره هو قوله ﴿فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٠
المسألة الثانية : في الجوارح قولان : أحدهما : أنها الكواسب من الطير والسباع، واحدها جارحة، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب، قال تعالى :﴿الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّاَاتِ﴾ (الجاثية : ٢١) أي اكتسبوا، وقال ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ (الأنعام : ٦٠) أي ما كسبتم. والثاني : أن الجوارح هي التي تجرح، وقالوا : أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل.
المسألة الثالثة : نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله، وتمسكوا بقوله تعالى :﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَسْاَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُا وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به، كالفهد والسباع من الطير : مثل الشاهين والباشق والعقاب، قال الليث : سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع، فقال : هذه كلها جوارح. وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى :﴿مُكَلِّبِينَ﴾ من وجوه : الأول : أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه. الثاني : أن كل سبع فإنه يسمى كلباً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد". الثالث : أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال فلان : كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه. والرابع : هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon