المسألة الثانية : قوله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه ﴾ فيه إشكال، وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله، فأما الكفر بالإيمان فهو محال، فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه : الأول : قال ابن عباس ومجاهد ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَانِ﴾ أي ومن يكفر بالله، إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان، ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز، والثاني : قال الكلبي ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَانِ﴾ أي بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فجعل كلمة التوحيد إيماناً، فإن الإيمان بها لما كان واجباً كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع، وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور، والثالث : قال قتادة : إن ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا فأنزل الله تعالى هذه الآية أي، ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا، فسمى القرآن إيماناً لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بدّ منه في الإيمان.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٣
المسألة الثالثة : القائلون بالاحباط قالوا : المراد بقوله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه ﴾ أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب إيمانه، والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا : معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع ؛ فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان، فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها، فهذا هو المراد من قوله ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه ﴾.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ مشروط بشرط غير مذكور في الآية، وهو أن يموت على ذلك الكفر ؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، والدليل على أنه لا بدّ من هذا الشرط قوله تعالى :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ (البقرة : ٢١٧) الآية.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٣
٢٩٦
ثم قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾.
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله (المائدة : ١) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله ﴿بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل : إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى : نعم أنا أوفي أولاً بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أعلم أن المراد بقوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا﴾ ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع. الثاني : أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه : إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان : الأول : أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور. الثاني : قوله تعالى :﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ﴾ (النساء : ٣٤) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال : فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى :﴿قَآا ِمَا بِالْقِسْطِ ﴾ (آل عمران : ١٨) وليس المراد منه ألبتة الانتصاب، بل المراد كونه مريداً لذلك الفعل متهيئاً له مستعداً لإدخاله في الوجود، فكذا ههنا قوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا﴾ معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٦


الصفحة التالية
Icon