المسألة الثانية : قال قوم : الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفاً مستقلاً بنفسه، واحتجوا بأن قوله ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ﴾ جملة شرطية/ الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة. وقال آخرون : المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية ﴿وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام :"بني الدين على النظافة" وقال :"أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة" ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء : لا يجب. احتج داود بهذه الآية من وجهين : لأول : أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك، فإن قوله ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا﴾ إما أن يكون المراد منه قياماً واحداً وصلاة واحدة، فيكون المراد منه الخصوص، أو يكون المراد منه العموم، والأول باطل لوجوه : الأول : أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة، وذلك خلاف الأصل، وثانيها : أنه يصح إدخال الاستثناء عليه، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل، وذلك يوجب العموم، وثالثها : أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد، وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل، فتصير هذه الآية وحدها مجملة، وقد بينا أنه خلاف الأصل، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الووء عند كل قيام إلى الصلاة.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٦
الوجه الثاني : أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود، والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقوناً بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم، ومن وجوه التعظيم كونه آتياً بالخدمة حال كونه في غاية النظافة، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف المناسب، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه، فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. ثم قال داود : ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، أو يقال : إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه، قال : أما القراءة الشاذة فمردودة قطعاً، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن، وهو أن يقال : إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل، وأيضاً فلأن معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها، فلو كان ذلك قرآناً لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ، وأما التمسك بخبر الواحد فقال : هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر، وذلك لا يجوز. قال الفقهاء : ءن كلمة ﴿إِذَآ﴾ لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت، ثم لو دخلت ثانياً لم تطلق ثانياً، وذلك يدل على أن كلمة ﴿إِذَآ﴾ لا تفيد العموم، وأيضاً أن السيد إذ قال لعبده : إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة.
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم : فلعله يلتزم العموم، وأيضاً فله أن يقول : إنا قد دللنا على أن كلمة ﴿إِذَآ﴾ في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير/ وأما الفقهاء فإنهم استدولا على صحة قولهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. قال عمر رضي الله عنه : فقلت له في ذلك فقال : عمداً فعلت ذلك يا عمر.


الصفحة التالية
Icon