ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم ﴿قَالُوا يَـامُوسَى ا إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ وفي تفسير الجبارين وجهان : الأول : الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، وهذا هو اختيار الفرّاء والزجاج. قال الفرّاء : لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما : جبار من أجبر، ودراك من أدرك، والثاني : أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها، ويقال : رجل جبار إذا كان طويلاً عظيماً قوياً، تشبيهاً بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم، فسموهم جبارين لهذا المعنى.
ثم قال القوم ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى :﴿وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ (الأعراف : ٤٠).
ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٣
٣٣٣
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الرجلان هما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وكانا من الذين يخافون الله وأنعم الله عليهما بالهداية والثقة بعون الله تعالى والاعتماد على نصرة الله. قال القفال : ويجوز أن يكون التقدير : قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا، وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعاً لهم على قتالهم، وقراءة من قرأ ﴿يَخَافُونَ﴾ بالضم شاهدة لهذا الوجه.
المسألة الثانية : في قوله ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ وجهان : الأول : أنه صفة لقوله ﴿رَجُلانِ﴾، والثاني : أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام.
المسألة الثالثة : قوله ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر، كأنه قال : متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار، فلا تخافوهم. والله أعلم.
المسألة الرابعة : إنما جزم هذان الرجلان في قولهما ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـالِبُونَ ﴾ لأنهما كانا جازمين بنبوّة موسى عليه السلام، فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال :﴿ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (المائدة : ٢١) لا جرم قطعاً بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم، بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإله القادر ومؤمنين بصحة نبوّة موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٣
٣٣٤
وفي قوله ﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ﴾ وجوه : الأول : لعلّ القوم كانوا مجسمة، وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى. الثاني : يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال : كلمته قذهب يجيبني، يعني يردي أن يجيبني، فكأنهم قالوا : كن أنت وربك مردين لقتالهم، والثالث : التقدير : اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء.
فإن قيل : إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله ﴿فَقَـاتِلا﴾ خبراً أيضاً ؟
قلنا : لا يمتنع خبر بعد خبر، والرابع : المراد بقوله ﴿وَرَبُّكَ﴾ أخوه هارون، وسموه رباً لأنه كان أكبر من موسى. قال المفسرون : قولهم ﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ﴾ إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر، وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق، ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ (المائدة : ٢٦) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء الله تعالى منذ كانوا.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٤
٣٣٤
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِى وَأَخِى ﴾ ذكر الزجاج في إعراب قوله ﴿وَأَخِى ﴾ وجهين : الرفع والنصب، أما الرفع فمن وجهين : أحدهما : أن يكون نسقاً على موضع ﴿إِنِّى ﴾ والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي، وأخي كذلك ومثله قوله ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه ﴾ (التوبة : ٣) والثاني : أن يكون عطفاً على الضمير في ﴿أَمْلِكُ﴾ وهو "أنا" والمعنى : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا، وأما النصب فمن وجهين : أحدهما أن يكون نسقاً على الياء، والتقدير : إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا، والثاني : أن يكون ﴿أَخِى ﴾ معطوفاً على ﴿نَفْسِى﴾ فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته.