والقول الثاني : وهو قول الحسن والضحاك : أن ابنى قوله تعالى في آخر القصة ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل أَنَّه مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ﴾ (المائدة : ٣٢) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سبباً لإيجاب القصاص عليهم زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب. ومما يدل على ذلك أيضاً أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبداً من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله، ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد، فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه، فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات، وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال : هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٦
واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار، وفي الآية أيضاً ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب، ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر، وهو الحق والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله ﴿بِالْحَقِّ﴾ فيه وجوه : الأول : بالحق، أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى. والثاني : أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل. الثالث : بالحق، أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويبعون عليه. الرابع : بالحق، أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها، وإنما هي لهو الحديث، وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية، ونظيره قوله تعالى :﴿لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَابِ ﴾ (يوسف : ١١١).
ثم قال تعالى :﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذ : نصب بماذا ؟
فيه قولان الأول : أنه نصب بالنبأ، أي قصتهم في ذلك الوقت. الثاني : يجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.
المسألة الثانية : القربان : اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة، ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران.
المسألة الثالثة : تقدير الكلام وهو قوله ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم، لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا. وقيل : إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد، وأيضاً فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
ثم قال تعالى :﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخَرِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قيل : كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد : علامة الرد أن تأكله النار، والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه. وقيل : ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت النار تنزل من السماء فتأكله.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٦
المسألة الثانية : إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال. قال تعالى ههنا حكاية عن المحق ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ (الحج : ٣٧) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام :"التقوى ههنا" وأشار إلى القلب، وحقيقة التقوى أمور : أحدها : أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير، وثانيها : أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى. وثالثها : أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائط وقيل في هذه القصة : إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه. وقيل : إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل. وقيل : كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة، فلذلك لم يقبل الله قربانه.


الصفحة التالية
Icon