ثم قال المفسرون : سهلت له نفسه قتل أخيه. ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفاً له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلاً عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه. فهذا هو المراد بقوله ﴿فَطَوَّعَتْ لَه نَفْسُه قَتْلَ أَخِيهِ﴾ قالت المعتزلة : لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافاً إلى الله تعالى لا إلى النفس.
وجوابه : أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي، وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿فَقَتَلَه ﴾ قيل : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر، فتعلم قابيل ذلك منه، ثم إنه وجد هابيل نائماً يوماً فضرب رأسه بحجر فمات. وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" وذلك أنه أول من سن القتل.
ثم قال تعالى :﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ قال ابن عباس : خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة، وأما الآخرة فهو العقاب العظيم. قيل : إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فإن عبدت النار أيضاً حصل مقصودك، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال ما كنت عليه وكيلاً، فقال بل قتلته، ولذلك اسود جسدك، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط. قال صاحب "الكشاف" يروى أنه رثاه بشعر. قال وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، والأنبياء معصومون عن الشعر، وصدق صاحب "الكشاف" فيما قال. فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٠
٣٤١
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قيل : لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غراباً، وفيه وجوه : الأول : بعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، فتعلم قابيل ذلك من الغراب. الثاني : قال الأصم : لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثو التراب على المقتول، فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال : يا ويلتى. الثالث : قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه.
المسألة الثانية :﴿لِيُرِيَه ﴾ فيه وجهان : الأول : ليريه الله أو ليريه الغراب، أي ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز.
المسألة الثالثة :﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ عورة أخيه، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها. وقيل سوأة أخيه، أي جيفة أخيه.
ثم قال تعالى :﴿قَالَ يَـاوَيْلَتَى ا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن قوله كلمة تحسر وتلهف، وفي الآية احتمالان : الأول : أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علماً منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته، فندم وتلهف وتحسر على فعله. الثاني : أنه كان عالماً بكيفية دفنه، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال : إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول، فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه. وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله، وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض، فلا جرم قال : يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤١
المسألة الثانية : قوله : اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، ولفظها لفظ النداء، وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره، أي أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك، وذكر زيادة بيان كما في قوله (هود : ٧٢) والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon