المسألة الثالثة : لفظ الندم وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديماً لأنه يلازم المجلس. وفيه سؤال : وهو أنه صلى الله عليه وسلّم قال :"الندم توبة" فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته ؟
أجابوا عنه من وجوه : أحدها : أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة، والثاني : أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية، والثالث : أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله، فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال : هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب/ لا لأجد الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤١
٣٤٢
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ﴾ أي بسبب فعلته.
فإن قيل عليه سؤالان : الأول : ىن قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ﴾ أي من أجل ما مرّ من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص، وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل. الثاني : أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل ؟
والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : قال الحسن : هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، والثاني : أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه، ولكن قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ﴾ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، منها قوله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ (المائدة : ٣٠) ومنها قوله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ﴾ (المائدة : ٣١) فقوله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا، وقوله ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ﴾ إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة، فقوله :﴿ذَالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل ﴾ أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل، وهذا جواب حسن والله أعلم.
وأما السؤال الثاني : والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاماً في جميع لأديان والملل، إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس، ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان، والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل. وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلّم وبأكابر أصحابه، كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٢
المسألة الثانية : قرىء "من أجل ذلك" بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر "من أجل ذلك" بكسر الهمزة، وهي لغة، فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسر الهمزة عليها.
المسألة الثالثة : قال القائلون بالقياس : دلت الآية على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل، وذلك لأنه تعالى قال :﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل ﴾ كذا وكذا، وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ﴾ والمعزلة أيضاً قالوا : دلت هذه الآية على أن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد، ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح فيهم مريداً وقوعها منهم/ لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعياً للمصالح. وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon