ثم قال تعالى :﴿وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وبفعل ما ينبغي، بقوله ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة، فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة، والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحصوصات، وكان بين الحالتين تضاد وتناف، ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين، وبالمشرق والمغرب، وبالليل والنهار، وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تهالى :﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلاً على الطبع، فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله ﴿وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير ههنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان، منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٨
والمقام الأول : هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله ﴿وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِه ﴾ أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته.
والمقام الثاني : دون الأول، وإليه الإشارة بقوله ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب.
واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات، ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار، وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار، وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٨
٣٥٠
أحدهما : قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه لِيَفْتَدُوا بِه مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا﴾ وفيه مسائل :
فإن قيل : لم وحد الراجع في قوله ﴿لِيَفْتَدُوا بِه ﴾ مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعاً ومثله ؟
قلنا : التقدير كأنه قيل : ليفتدوا بذلك المذكور.
المسألة الثانية : قوله ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يحتمل أن يكون في موضع الحال، ويحتمل أن يكون عطفاً على الخبر.
المسألة الثالثة : المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت".
النوع الثاني : من الوعيد المذكور في هذه الآية.
قوله ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إرادتهم الخروج تحتمل وجهين : الأول : أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما قال تعالى :﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ (السجدة : ٢).
قيل : إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل : يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين، والثاني : أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم، كقوله تعالى في موضع آخر ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ (المؤمنون : ١٠٧) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ﴾ بضم الياء.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال "لا إله إلا الله" على سبيل الإخلاص. قالوا : لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار، وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا لامعنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى والله أعلم. ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم، كما أن قوله ﴿لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة : ٣) أي لكم لا لغيركم، فكذا ههنا.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥٠
٣٥١
في اتصال الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً، والثاني : أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال :﴿مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ (المائدة : ٣٢) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام، فذكر أولاً : قطع الطريق، وثانياً : أمر السرقة، وفي الآية مسائل :