واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجيهن : الأول : أن السرقة علة لوجوب القطع، وقد وجدت في المرة الثالثة، فوجب القطع في المرة الثالثة أيضاً، إنما قلنا : إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ وقد بيّنا أن المعنى : الذي سرق فاقطعوا يده، وأيضاً الفاء في قوله ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة، فالسرقة علة لوجوب القطع، ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة، فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة، فلا بدّ وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة، وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعاً آخر وهو المطلوب، والثاني : أنه تعالى قال :﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ولفظ الأيدي لفظ جمع، وأقله ثلاثة، والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة، ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولاً به عند السرقة الثالثة.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥١
فإن قالوا : إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما، فكان هذا الحكم مختصاً باليمين لا في مطلق الأيدي، والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد.
قلنا : القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة، فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضاً القراءة الشذة ليست بحجة عندنا، لأنا نقطع أنها ليست قرآناً، إذ لو كانت قرآناً لكانت متواترة، فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن/ ولعلّه كان في القررن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصاً، وما نقلت إلينا، ولعلّه كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلاً بأنه لو كان قرآناً لكان متواتراً، فلما لم يكن متواتراً قطعنا أنه ليس بقرآن، فثبت أن لاقراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة.
المسألة الخامسة : قال الشافعي رحمه الله : أغرم السارق ما سرق. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق : لا يجمع بين القطع والعزم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم. وقال مالك رحمه لله : يقطع بكل حال، وأما الغرم فليزمه إن كان غنياً، ولا يلزمه إن كان فقيراً.
حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع، وقوله عليه الصلاة والسلام :"على اليد ما أخذت حتى تؤديه" يوجب الضمان، وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان، فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة، وعليه الدليل، على أنا نقول : ءن حد الله لا يمنع حق العباد، بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، وبدليل أنه لو كان المسروق باقياً وجب رده بالإجماع، ويدل عليه أيضاً أن المسروق كان باقياً على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق، فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصراً على وقت القطع، أو مسنداً إلى أول زمان السرقة، والأول : لا يقول به الخصم، والثاني : يقتضي أن يقال : إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقاً على ذلك الوقت، وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي. وهذا محال.
حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء، والجزاء هو الكافي، فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة، وإذا كان كافياً وجب أن لا يضم الغرم إليه.
والجواب : لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائماً، والله أعلم بالصواب.
المسألة السادسة : قال الشافعي رحمه الله : السيد يملك إقامة الحد على المماليك. وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يملك.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥١
حجة الشافعي أن قوله ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ عام في حق الكل، لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصاً بالبغض دون البعض، ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضاً، ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى، فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإمام والمولى.
المسألة السابعة : احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماماً معيناً والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة، فلا بدّ من شخص يكون مخاطباً بهذا الخطاب، وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام، فلما كان هذا التكليف تكليفاً جازماً ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام، وما لا يتأتى الواجب إلا به، وكان مقدوراً للمكلف، فهو واجب، فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذٍ.