قلنا فيه وجوه : الأول : المراد بقوله دأسلموا} أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام. الثاني : قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له، كقوله تعالى : أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام. الثاني : قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام/ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له، كقوله تعالى :﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (النحل : ١٢٠) وقوله ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ (النساء : ٤٥) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصالل الهير ما كان حاصلاً لأكثر الأنبياء. الثالث : قال ابن الأنباري : هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى :﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾ يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه. الرابع : المراد بقوله ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾ يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه، والغرض من التنبيه على قبح طريعة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام.
المسألة الرابعة : قوله ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾ فيه وجهان : الأول : المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم وفيما بينهم، والثاني : يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٥
المسألة الخامسة : أما الربانيون فقد تقدم تفسيره، وأما الأحبار فقال ابن عباس : هم الفقهاء، واختلف أهل اللغة في واحده، قال الفرّاء : إنما هو "حبر" بكسر الحاء، يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به، وذلك أنه يكون صاحب كتب، وكان أبو عبيدة يقول : حبر بفتح الحاء. قال الليث : هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها. وقال الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر، وأما اشتقاقه فقال قوم : أصله من التحبير وهو التحسين، وفي الحديث "يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره" أي جماله وبهاؤه، والمحبر للشيء المزين، ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به. وقال آخرون اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به، وهو قول الفرّاء والكسائي وأبي عبيدة، والله أعلم.
المسألة السادسة : دلّت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالاً من الأحبار، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين، والأحباء كآحاد العلماء.
ثم قال :﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـابِ اللَّهِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : حفظ كتاب الله على وجهين : الأول : أن يحفظ فلا ينسى. الثاني : أن يحفظ فلا يضيع، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين : أحدهما : أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني : أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.
المسألة الثانية : الباء في قوله ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَـابِ اللَّهِ﴾ فيه وجهان : الأول : أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا. الثاني : أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا، وهو قول الزجاج.
ثم قال تعالى :﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾ أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله، فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير.
ثم قال تعالى :﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة، خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومنعهم من التحريف والتغيير.