ثم قال تعالى :﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّه ﴾ الضمير في قوله ﴿لَه ﴾ يحتمل أن يكون عائداً إلى العافي أو إلى المعفو عنه، أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له، أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص ٣ في سورة البقرة ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ (البقرة : ٢٣٧) ويقرب منه قوله صلى الله عليه وسلّم :"أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس" وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه" وهذا قول أكثر المفسرين.
والقول الثاني : أن الضمير في قوله ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّه ﴾ عائد إلى القاتل والجارح، يعني أن المجنى عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني، يعني لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المجنى عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولاً :﴿فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ (المائدة : ٤٤) وثانياً :﴿هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولاً، فأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟
وجوابه : أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٨
٣٦٩
قفيته : مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال : عقبته بفلان وقفيته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.
فإن قيل : فأين المفعول الأول في الآية ؟
قلنا : هو محذوف، والظرف وهو قوله ﴿عَلَى ا ءَاثَـارِهِم﴾ كالساد مسده، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في ﴿ءَاثَـارِهِم﴾ للنبيّين في قوله ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾ (المائدة : ٤٤) وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن كذلك، فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام، فلذلك قال في آخر هذه الآية ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيه ﴾ (المائدة : ٤٧) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين ؟
والجواب : معنى كون عيسى مصدقاً للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزّل من عند الله، وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ.
السؤال الثاني : لم كرر قوله ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ والجواب : ليس فيه تكرار لأن في الأول : أن المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني : الإنجيل يصدق التوراة.
السؤال الثالث : أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال :﴿فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاـاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وفيه مباحثات ثلاثة : أحدها : ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة : وثانيها : لم ذكر الهدى مرتين ؟
، وثالثها : لم خصصه بكونه موعظة للمتقين ؟
والجواب على الأول : أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوّة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدىً، وأما كونه نوراً، فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف، وأما كونه مصدقاً لما بين يديه، فيمكن حمله على كونه مبشراً بمبعث محمد صلى الله عليه وسلّم وبمقدمه وأما كونه هدىً مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلّم سبب لاهتداء الناس إلى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم، فكان هذى في هذه اللمسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير، وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢).
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
السأال الرابع : قوله في صفة الإنجيل ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ عطف على ماذا ؟
الجواب : أنه عطف على محل ﴿فِيهِ هُدًى﴾ ومحله النصب على الحال، والتقدير : وآتيناه الإنجيل حال كونه هدىً ونوراً ومصدقاً لما بين يديه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
٣٧٠


الصفحة التالية
Icon