ثم قال تعالى :﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيه ﴾ قرأ حمزة ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ بكسر اللام وفتح الميم، جعل اللام متعلقة بقوله ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى ﴾ (المائدة : ٤٦) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه، فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم، وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر، وفيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير : وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالانْفَ بِالانْفِ وَالاذُنَ بِالاذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌا فَمَن تَصَدَّقَ بِه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّه ا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا﴾ يدل عليه، وحذف القول كثير كقوله تعالى :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ (الرعد : ٢٣) أي يقولون سلام عليكم، والثاني : أن يكون قوله ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل.
فإن قيل : كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وهو قول الأصم. والثاني : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، مما لم يصر منسوخاً بالقرآن، والثالث : المراد من قوله ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيه ﴾ زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعنى بقوله ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ واختلف المفسرون، فمنهم من جعل هذه الثلاثة، أعني قوله (الكافرون والظالمون الفاسقون) صفت لموصوف واحد. قال القفال : وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى، بل هو كما يقال : من أطاع الله فهو المؤمن، من أطاع الله فهو البر، من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد. وقال آخرون : الأول : في الجاحد، والثاني والثالث : في المقر التارك. وقال الأصم : الأول والثاني : في اليهود، والثالث : في النصارى.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
٣٧١
ثم قال تعالى :﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ وهذا خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم، فقوله ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ﴾ أي القرآن، وقوله ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن.
وقوله ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : في المهيمن قولان : الأول : قال الخليل وأبو عبيدة : يقال قد هيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً عليه حافظاً. قال حسّان :
فإن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألبب
والثاني : قالوا : الأصل في قولنا : آمن يؤمن فهو مؤمن، أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين، ثم قبلت الأولى هاء كما في : هرقت وأرقت، وهياك وإياك، وقبلت الثانية ياء فصار مهيمناً فلهذا قال المفسرون ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه ﴾ أي أميناً على الكتب التي قبله.
المسألة الثانية : إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير مسنوخاً ألبتة، ولا يتطرق إليه البتديل والتحريف على ما قال تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (الحجر : ٩) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبداً، فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" قرىء ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه ﴾ بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند الله تعالى : بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات، ولقوله ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه ﴾ (فصلت : ٤٢) والمهيمن عليه هو الله تعالى.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧١
ثم قال تعالى :﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّه ﴾ يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله الله تعالى عليك.
﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿وَلا تَتَّبِعْ﴾ يريد ولا تنحرف، ولذلك عداه بعن، وكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم.