المسألة الثانية : روي أن جماعة من اليهود قالوا : تعالوا نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلّم لعلنا نفتنه عن دينه، ثم دخلوا عليه وقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك، فاقض لنا ونحن نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثالثة : تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال : لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال :﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾.
والجواب : أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. وقيل : الخطاب له والمراد غيره.
ثم قال تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ (الشرعة : في اشتقاقه وجهان : الأول : معنى شرع بين وأوضح. قال ابن لسكيت : لفظ الشرع مصدر : شرعت الإهاب، إذا شققته وسلخته. الثاني : شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه، والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها، فالشريعة فعلية بمعنى المعفولة، وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها، وأما المنهاج فهو الطريق الواضح، يقال : نهجب لك الطريق وأنهجب لغتان.
المسألة الثانية : احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا، لأن قوله ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة، وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر.
المسألة الثالثة : وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل، وآيات دالة على حصول التباين فيها.
أما النوع الأول : فقوله :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ (الشورى : ١٣) إلى قوله ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه ﴾ (الشورى : ١٣) وقال ﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام : ٩٠).
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧١
وأما النوع الثاني : فهو هذه الآية، وطريق الجمع أن نقول : النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين، والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين.
المسألة الرابعة : الخطاب في قوله ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ خطاب للأمم الثلاث : أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم السلام، بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ (المائدة : ٤٤) ثم قال ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ (المائدة : ٤٦) ثم قال ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ (المائدة : ٤٨).
ثم قال :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يعني شرائع مختلفة : للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة.
المسألة الخامسة : قال بعضهم : الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين. وقال آخرون : بينهما فرق، فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة، والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة، وهي المراد بالمنهاج، فالشريعة أول، والطريقة رخر. وقال المبرد : الشريعة ابتداء الطريقة، والطريقة المنهاج المستمر، وهذا تقرير ما قلناه. والله أعلم بأسرار كلامه.
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة، أي دين واحد لا اختلاف فيه. قال الأصحاب : هذا يدل على أن الكل بمشيئة الله تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء.
ثم قال تعلى :﴿وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها منقادين لله خاضعين لتكاليف الله، أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ أي فابدروها وسابقوا نحوها.
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات.
﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فيخربكم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وموفيكم ومقصركم في العمل، والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الكشوك ويحصل مع اليقين، وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧١
٣٧٣
ثم قال تعالى :﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فإن قيل : قوله :﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم﴾ معطوف على ماذا ؟