أجاب جمهور المفسرين بأن المراد : أنك ءن لم تلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل : إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع، فسقط هذا الجواب.
والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه : إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا ههنا : فإن لم تبلغ تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم.
المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً : الأول : أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود. الثاني : نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنيبي سكت عنهم، فنزلت هذه الآية. الثالث : لما نزلت آية التخيير، وهو قوله ﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ﴾ (الأحزاب : ٢٨) فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدينا فنزلت. الرابع : نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. قالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول :﴿يَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله ﴿وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ (الأحزاب : ٣٧) الخامس : نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحياناً عن حثهم على الجهاد. السادس : لما نزل قوله تعالى :﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام : ١٠٨) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال ﴿بَـالِغَ﴾ يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، والله يعصمك منهم. السابع : نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك (هل بلغت) قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام :"الّلهم فاشهد" الثامن : روي أنه صلى الله عليه وسلّم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال : يا محمد من يمنعك مني ؟
فقال "الله" فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس. التاسع : كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية. العاشر : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال :"من كنت مولاه فعلي مولاه الّلهم وال من والاه وعاد من عاداه" فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٩
واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها.
المسألة الرابعة : في قوله ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ سؤال، وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته ؟
والجواب من وجيهن : أحدهما : أن المراد بعصمه من القتل، وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد.
وأعلم أن المراد من ﴿النَّاسِ ﴾ ههنا الكفار، بدليل قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ﴾ ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون، وعن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال :"انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس".
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٩
٤٠١
وأعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جداً فقال ﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ﴾ من اليهود والنصارى ﴿لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ﴾ من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب، كما تقول : هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه.
وقوله :﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا ﴾ وهذا مذكور فيما قبل، والتكرير للتأكيد.