ثم قال تعالى :﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ﴾ وفيه وجهان : الأول : لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين. الثاني : لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم، فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك، روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا : يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من الله تعالى ؟
قال بلى، قالوا : فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها، فنزلت هذه الآية.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠١
٤٠٢
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة، وبقي ههنا مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال : والصائبين، وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه : الأول : وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء علي نية التأخير، كأنه قيل : إن الذين رمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصائبون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصائبين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً، فكأنه قيل : كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم، حتى الصائبون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك.
الوجه الثاني : وهو قول الفراء أن كلمة ﴿ءَانٍ﴾ ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وحوه : الأول : أن كلمة ﴿ءَانٍ﴾ إنما تعمل كلونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة. الثاني : أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في اللاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين، وقد بيناه بلادليل في سورة البقرة في تفسير قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ﴾ (البقرة : ٦) الثالث : أنها ءنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله ﴿الَّذِينَ﴾ وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا كان اسم ﴿ءَانٍ﴾ بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف، والرفع على إسقاط عمله، فلا يجوز أن يقال : إن زيداً وعمرو قائمان لأن زيداً ظهر فيه أثر الإعراب، لكن إنما يجوز أن يقال : إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا، وإن هذا نفسه شجاع، وإن قطام وهند عندنا، والسبب في جواز ذلك أن كلمة ﴿ءَانٍ﴾ كانت في الأصل ضعيفة العمل، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه، وهو كونه مبتدأ، فهذا تقرير قول الفراء، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين، لأن الذي قالواه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح، وإنما تحصل الصحة عند تفكيل هذا النظم، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه، فكان ذلك أولى.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
المسألة الثانية : قال بعض النحويين : لا شك أن كلمة "إن" من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله، وكونه مبتدأ يقتضي الرفع.
إذا ثبت هذا فنقول : المعطوف على اسم "إن" يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف، ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثً عنه ومخبراً عنه.
طعن صاحب "الكشاف" فيه وقال : إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل (إن واسمها) بعد ذكر الخبر، وتقول : إن زيداً منطلق وعمراً وعمرون بالنصب على اللفظ، والرفع على موضع (إن) واسمها، لأن الخبر قد تقدم، وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز، لأنا لو رفعناه على محل (إن واسمها) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ، ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء/ لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معاً، وحينئذٍ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعاً بحرف (إن) وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان، وأنه محال.
وأعلم أن هذا الكلام ضعيف، وبيانه من وجوه : الأول : أن هذه الأشياء التي تسميها ا لنحويون : رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها، فإن هذا لا يقوله عاقل، بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال، ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى.
والوجه الثاني : في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة (أن) مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر، والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن : لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة، وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة.