والوجه الثالث : وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبراً عنها، لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته، ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته، لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة.
وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحداً إلا أنه في التقدير متعدد، وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية، وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعاً بالحرف والبعض بالابتداء، وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد. والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه، ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبراً، وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
وإذا ثبت هذا فنقول : إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسماً على حكم صريح العقل أنه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر، وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم.
المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، وذلك لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية، والقوة العملية، أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق، وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير، وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم لآخر، وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام :"التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" ثم بيّن تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا.
فإن قيل : كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوماً عن أهوال القيامة ؟
والجواب من وجيهن : الأول : أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح، ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي، والثاني : أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح/ والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط، فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة.
والجواب : أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة، فكان الخوف والحزن حاصلاً قبل إظهار العفو.
المسألة الخامسة : أنه تعالى قال في أول الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ثم قال في آخر الآية ﴿مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ﴾ وفي هذا التكرير فائدتان، الأولى : أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
الفائدة الثانية : أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان، والإيمان يدخل تحته أقسام، وأشرفها الإيمان بالله واليوم لآخر، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان، وقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في قوله ﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وكلها صالحة لهذا الموضع.
المسألة السادسة : لراجع إلى اسم ﴿ءَانٍ﴾ محذوف، والتقدير : من آمن منهم، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٢
٤٠٤
أعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله، وهو متعلق بما افتتح الله به السورة، وهو قوله ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ (المائدة : ١) فقال ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل ﴾ يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال، وأرسلنا إليهم رسلاً بتعريف الشرائع والأحكام. وقوله ﴿كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولُا بِمَا لا تَهْوَى ا أَنفُسُهُمْ﴾ جملة شرطية وقعت صفة لقوله ﴿رُسُلا ﴾ والراجع محذوف، والتقدير : كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم، أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف.
وههنا سؤالات :
الأول : أي جواب الشرط ؟
فإن قوله ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ لا يصلح أن يكون جواباً لهذا الشرط، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين.