المسألة الثالثة : في قوله ﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ وجوه : الأول : على مذهب من يقول من العرب "أكلوني البراغيث" والثاني : أن يكون ﴿كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ بدلاً عن الضمير في قوله ﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا ﴾ والإبدال كثير في القرآن قال تعالى :﴿الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ﴾ (السجدة : ٧) وقال :﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾ (آل عمران : ٩٧) وهذا الإبدال ههنا في غاية الحسن، لأنه لو قال : عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال ﴿كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل. الثالث : أن قوله ﴿كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : هم كثير منهم.
المسألة الرابعة : لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر، فنقول : إن فاعل هذا الجهل هو الله تعالى أو العبد، والأول : يبطل قوله المعتزلة، والثاني : باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه.
فإن قالوا : إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم.
قلنا : حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر، إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بدّ من انتهائها إلى الجهل الأول، ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه، فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، والمقصود منه التهديد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٥
٤٠٨
قوله تعالى :﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَا وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إسرائيل اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ﴾.
اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع ههنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم، وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون : إن مريم ولدت إلهاً، ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، ثم حكلى تعالى عن المسيح أنه قال. وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاـاهُ النَّارُ ﴾ ومعناه ظاهر. واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلداً، قالوا : وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن الله حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار، وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم، فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٨
٤٠٨
ثم قال تعالى :﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :﴿ثَلَـاثَةِ﴾ كسرت بالإضافة، ولا يجوز نصبها لأن معناه : واحد ثلاثة. أما إذا قلت : رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب، لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم.
المسألة الثانية : في تفسير قول النصارى ﴿ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ ﴾ طريقان : الأول : قول بعض المفسرين، وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح ﴿قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه قَالَ﴾ (المائدة : ١١٦) فقوله ﴿ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ ﴾ أي أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة، والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم ﴿وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار، إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم، قال الواحدي ولا يكفر من يقول : إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة، فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم، لقوله تعالى :﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ (المجادلة : ٧).
والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أب، وابن، وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إلهة، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.
واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى.


الصفحة التالية
Icon