جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٨
ثم قال تعالى :﴿وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ في ﴿مَنْ﴾ قولان : أحدهما : أنها صلة زائدة والتقدير : وما إله إلا إله واحد، والثاني : أنها تفيد معنى الاستغراق، والتقدير : وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد.
ثم قال تعالى :﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال الزجاج : معناه : ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين ؛ لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية. ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٨
٤٠٩
قال الفرّاء : هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة : ٩١) في آية تحريم الخمر.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٩
٤٠٩
ثم قال تعالى :﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّه صِدِّيقَةٌ ﴾ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسلل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى، وإن كان خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ﴿وَأُمُّه صِدِّيقَةٌ ﴾ وفي فسير ذلك وجوه : أحدها : أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها. قال تعالى في صفتها ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِه ﴾ (التحريم : ١٢) وثانيها : أنه تعالى قال :﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (مريم : ١٧) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة، وثالثها : أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية، فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقاً قال تعالى :﴿فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ (النساء : ٦٩).
ثم قال تعالى :﴿كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ﴾.
واعلم أن المقصود من ذلك : الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيانه من وجوه : الأول : أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً، والثاني : أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلهاً. الثالث : قال بعضهم : إن قوله ﴿كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ﴾ كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بدّ وأن يحدث، وهذا عندي ضعيف من وجوه : الأول : أنه ليس كل من أكل أحدث، فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. الثاني : أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر. الثالث : أن الإله هو القادر على الخلق والايجاد، فلو كان إلهاً لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب، فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلهاً للعالمين، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٩
ثم قال تعالى :﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الايَـاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ يقال : أفكه يأفكه إفكاً إذا صرفه، والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه، وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، ومعنى قوله ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أنى يصرفون عن الحق، قال أصحابنا : الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب، لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك، فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك. ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٩
٤١٠