وهذا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعاً من الحجة : أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الاضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلهاً. الثاني : أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلهاً. الثالث : أن إله العالم يجب أن يكون غنياً عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجاً إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئاً، إنما العبد هو الذي يبعد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم، وإذا كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم علليه السلام حيث قال لأبيه ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢).
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٠
٤١٠
قوله تعالى :﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾.
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال ﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ والغلو نقيض التقصير. ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير. وقوله ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ صفة المصدر، أي لا تغلوا في دينكم غلواً غير الحق، أي غلواً باطلاً، لأن الغلو في الدين نوعان : غلو حق، وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده، وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل، وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا. وإلى أنه كذاب، والنصارى ادعوا فيه الإلهية.
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال :﴿بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾ (ص : ٢٦) ﴿وَاتَّبَعَ هَوَا هُ فَتَرْدَى ﴾ (طه : ١٦) ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ (النجم : ٣) ﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ﴾ (الجاثية : ٢٣) قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر. لا يقال : فلان يهوى الخير، إنما يقال : يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل : سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى :
إن الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٠
المسألة الثانية : أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا، ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة. نعوذُ بالله منها، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا، ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين، وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة.
واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٠
٤١١
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنا بَنِى إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُادَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon