قال أكثر المفسرين : يعني أصحاب السبت، وأصحاب المائدة. أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود، وهم أهل "ايلة" لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة الأعراد قال داود : اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة، وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى : اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. قال بعض العلماء : إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء، فذكر الله تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء. وقيلل : أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١١
٤١٢
ثم أنه تعالى فسّر المعصية والاعتداء بقوله
﴿كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوه ﴾ وللتناهي ههنا معنيان : أحدهما : وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم".
والمعنى الثاني في التناهي : أنه بمعنى الانتهاء. يقال : انتهى عن الأمر، وتناهى عنه إذا كف عنه.
ثم قال تعالى :﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ اللام في ﴿لَبِئْسَ﴾ لام القسم، كأنه قال : أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، وهو ارتكاب المعاصي والعدوان، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن قيل : الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولاً غير ممكن فلم ذمهم عليه ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني : لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته. الثالث : لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٢
٤١٢
ثم قال تعالى :﴿تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلّم، وذكرنا في قوله تعاللى :﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـا ؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا﴾ (النساء : ٥١).
ثم قال تعالى :﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة.
وقوله تعالى :﴿أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـالِدُونَ﴾ محل ﴿ءَانٍ﴾ رفع تقول : بئس رجلا زيد، ورفعه كرفع زيد، وفي زيد وجهان : الأول : أن يكون مبتدأ، ويكون (بئس) وما عملت فيه خبره، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال : بئس رجلا قتل : ما هو ؟
فقال : زيد، أي هو زيد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٢
٤١٢
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلَّهِ وَالنَّبِىِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـاكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ والمعنى : لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال :﴿وَلَـاكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ وفيه وجه آخر ذكره القفال، وهو أن يكون المعنى : ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلّم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء، وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٢
٤١٣
قوله تعالى :﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى ﴾.
أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والصنارى ما كذره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة، بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين. ولعمري أنهم كذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله} وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.
وههنا مسألتان :


الصفحة التالية
Icon