المسألة الثانية : قوله ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَـاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يحتمل وجوهاً : أحدها : لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم، وثانيها : لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم، وثالثها : لا تجتنبوا عنها اجتناباً شبيه لاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ورابعها : لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿عِلْمَا * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ (التحريم : ١) وسادسها : أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يمكنه التمييز، وحينئذٍ يحرم الكل، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالاً له، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر، والآية محتملة لكل هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٦
المسألة الثالثة : قوله ﴿وَلا تَعْتَدُوا ا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة : ١٩٠) فيه وجوه : الأول : أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، والثاني : أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى :﴿وَلا تَعْتَدُوا ﴾ ونظيره قوله تعالى ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا ﴾ (الأعراف : ٣١) الثالث : يعني لما أحل لكم الطيبت فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم.
ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٦
٤١٨
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله ﴿الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا ﴾ صيغة أمر، وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل. واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع، وقالوا : ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم، غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص.
المسألة الثانية : قوله ﴿حَلَـالا طَيِّبًا ﴾ يحتمل أن يكون متعلقاً بالأكل، وأن يكون متعلقاً بالمأكول، فعلى الأول يكون التقدير : كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، وعلى التقدير الثاني : كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً طيباً، أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً، وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال، فيلزم أن يكون كل ما كان رزقاً كان حلالاً، وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراماً لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالاً طيباً ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالاً وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة.
المسألة الثالثة : لم يقل تعالى : كلوا ما رزقكم، لكن قال ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ وكلمة (من) للتبعيض، فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض وأصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال :﴿وَلا تُسْرِفُوا ﴾ (الأنعام : ١٤١) (الأعراف : ٣١).
المسألة الرابعة :﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد. فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ وإذا تكفل الله برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد الله تعالى وإحسانه، فإنه أكرم من أن يخلف الوعد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :"ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" أما قوله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فهو تأكيد للتوصية بما أمر به، زاده توكيداً بقوله تعالى :﴿أَنتُم بِه مُؤْمِنُونَ﴾ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٨
٤١٨
النوع الثاني : من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى :﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ﴾.
قد ذكرنا أنه تعالى بيّن في هذا الموضع أنواعاً من الشرائع والأحكام. بقي أن يقال : أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه ؟
فنقول : قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوماً من الصحابة حرّموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية.
واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله ﴿يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢٥) فلا وجه للاعادة.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon