المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم ﴿عَقَّدتُّمُ﴾ بتشديد القاف بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿عَقَّدتُّمُ﴾ بتخفيف القاف بغير ألف، وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف. قال الواحدي : يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقداً إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضاً عقد بالتشديد إذا وكد، ومثله أيضاً عاقد بالألف.
إذا عرفت هذا فنقول : أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير، يقال : عقد زيد يمينه، وعقدوا أيمانهم، وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال : التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٨
وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين : الأول : أن بعضهم قال : عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى. الثاني : هب أنها تفيد التكرير كما في قوله ﴿وَغَلَّقَتِ الابْوَابَ﴾ (يوسف : ٢٣) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقداً، وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف.
المسألة الثانية :(ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، والتقدير : ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان.
المسألة الثالثة : في الآية محذوف، والتقدير : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف. وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة.
ثم قال تعالى :﴿فَكَفَّـارَتُه ا إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾.
واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير/ فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر، وهو الصوم.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز له تركها جميعاً، ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة، فإنه يخرج عن العهدة، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير، ومن الفقهاء من قال : الواحد لا بعينه، وهذا الكلام يحتمل وجهين : الأول : أن يقال : الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحداً من هذه الثلاثة لا بعينه. وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معيناً في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف، الثاني : أن يقال : الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى، إلا أنه مجهول العين عند الفاعل، وذلك أيضاً محال لأن كون ذلك الشيء واجباً بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال، وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره، والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٨
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد، وهو ثلثا من، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم، وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة، وصاع من غير الحنطة.
حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطاً في العرف، أو ما كان متوسطاً في الشرع، فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقاً أو جعل خبزاً فإنه يصير قريباً من المن، وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهراً، وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد، وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار، فقال الرجل : ما أجد فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم بعرق فيه خمسة عشر صاعاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم أطعم هذا، وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع، وهو مد، ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل، فكان قدرها معتبراً بصدقة الفطر، وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال :﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي، فأما الأعدل فيكون بإدام، وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله : مد معه إدامه، والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب.