أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر، فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جداً يكفيه الرغيف الواحد، وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان، إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالباً كالسكر، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة، والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب والخبز، ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة، ولما كان اللفظ محتملاً لكل واحد من الأمرين فنقول : يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجيهين : الأول : أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام. الثاني : أن هذا القدر واجب بيقين، والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٨
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : الواجب تمليك الطعام. وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز.
حجة الشافعي : أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة، إما الاطعام، أو الكسوة، أو الاعتاق، ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك، فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك.
حجة أبي حنيفة : أن الآية دلّت على أن الواجب هو الاطعام، والعغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى :﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه ﴾ (الإنسان : ٨) وقال :﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك، ويقال في العرف : فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله. وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافياً.
أجاب الشافعي رضي الله عنه : أن الواجب إما المد أو الأزيد، والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال الشافعي رحمه الله : لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز.
حجة الشافعي رحمه الله : أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه، وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص.
المسألة الخامسة : الكسوة في اللغة معناها اللباس، وهو كل ما يكتسى به، فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
المسألة السادسة : المراد بالرقبة الجملة، وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل، فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة، ثم جرى ذلك على العتق، ومذهب أهل الظاهر أن جميت الرقبات تجزيه. وقال الشافعي رحمه الله : الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكراً أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات، ولا إعتاق المكاتب، ولا شرء القريب، وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار.
المسألة السابعة : لقائل أن يقول : أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة.
قلنا له وجوه : أحدها : أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ، وثانيها : قدم الاطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم وجوداً، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف، وثالثها : أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر، أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤١٨
ثم قال تعالى :﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الشافعي رحمه الله : إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله، يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة، فجعل من لا زكاة عليه عادماً.
حجة الشافعي رحمه الله، أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم، تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوماً وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه، وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجباً/ فوجب أن تبقى الآية معمولاً بها في غير هذه الصورة.
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه : أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة.


الصفحة التالية
Icon