وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان : الأول : سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل، أي خالطته فسترته، والثاني : قال ابن الأعرابي : تركت فاختمرت، أي تغير ريحها، والميسر هو قمارهم في الجزور، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر.
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين : الأول : قوله ﴿رِجْسٌ﴾ والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل. يقال : رجس الرجل رجساً ورجس إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرجس بفتح الراء، وهو شدة الصوت. يقال : سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٣
الوصف الثاني : قوله ﴿مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ﴾ وهذا أيضاً مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة : ٢٨) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله ﴿الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ (النور : ٢٦) وأيضاً كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه. قال تعالى :﴿فَوَكَزَه مُوسَى ا فَقَضَى عَلَيْه قَالَ هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ ﴾ (القصص : ١٥) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ أي كونوا جانباً منه، والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان : الأول : أنها عائدة إلى الرجس، والرجس واقع على الأربعة المذكورة، فكان الأمر بالاجتناب متناولاً للكل. الثاني : أنها عائدة إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل : إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال :﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ﴾.
واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة : فالأول : ما يتعلق بالدنيا وهو قوله :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٣
٤٢٤
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولاً في الخمر ثم في الميسر :
أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم، فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء، فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة، وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء.
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الأجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوباً في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالباً فيه، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده، ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيراً مسكيناً ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن، وكل ذلك مضاد لمصالح العالم.
فإن قيل : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية.
قلنا : لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال :﴿تَشْكُرُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ (المائدة : ٩٠) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة، فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيداً لقبح الخمر والميسر، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر.
أما النوع الثاني : من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر : المفاسد المتعلقة بالدين، وهو قوله تعالى :﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ ﴾ فنقول : أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر الله فظاهر، لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى، وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك، لأنه إن كان غالباً صار استغراقه في لذة الغلبة مانعاً من أن يخطر بباله شيء سواه، ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٤
فإن قيل : الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني، ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلاً وهذا يقدح في صحة هذا التعليل :
قلنا : هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة.


الصفحة التالية
Icon