ولما بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين.
قال تعالى :﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ روي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى ﴾ (النساء : ٤٣) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً/ فلما نزلت هذه الآية قال عمر : انتهينا يا رب.
واعلم أن هذا وإن كان استفهاماً في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك، فكأنه قيل له : أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ جارياً مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقروناً بإقرار الملكف بوجوب الانتهاء.
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه : أحدها : تصدير الجملة بإنما، وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال : للا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها : أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم :"شارب الخمر كعابد الوثن" وثالثها : أنه تعالى أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب، ورابعها : أنه قال :﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة، وخامسها : أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الاعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. وسادسها : قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف ؟
أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ. وسابعها : أنه تعالى قال بعد ذلك.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٤
٤٢٥
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ﴾ فظاهره أن المراد وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر، وقوله ﴿وَاحْذَرُوا ﴾ أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف. وثامنها : قوله :
﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ﴾ وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله، وبيانه، يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار، فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى، ولا شك أنه تهديد شديد، فصار كل واحد من هذه الوجوه الصمانية دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً في تحريم الخمر.
واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام، وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ ﴾ (المائدة : ٩١) قال بعده ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ هي كون الخمر مؤثراً في الاسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام، ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصراً على قوله فليس لعناده علاج، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٥
٤٢٦
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة : إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم، فنزلت هذه الآية والمعنى : لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة، وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ (البقرة : ١٤٣) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك، كما قال :﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ﴾ (آل عمران : ١٩٥).