والقول الثاني : أن الصيد هو ما يؤكل لحمه، فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع، وهو قول الشافعي رحمه الله وسلم أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه الله القرآن والخبر، أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ (المائدة : ٩٦) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الاحرام، فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيداً، وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضموناً، لأن الأصل عدم الضمان، تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية، فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل، وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام :"خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور" وفي رواية أخرى : والسبح الضاري، والاستدلال به من وجوه : أحدها : أن قوله : والسبع الضاري نص في المسألة، وثانيها : أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالاً بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا" قتلها، وثالثها : أن الشارع خصها بإباحة القتل، وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء، وصفة الايذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها. وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
حجة أبي حنيفة رحمه الله : أن السبع صيد فيدخل تحت قوله ﴿لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر :
ليث تربى ربية فاصطيدا
ولقول علي عليه السلام :
فصيد الملوك أرانب وثعالب
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
والجواب : قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد، وذلك لا يعارضه شعر مجهول، وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد، لأن عندنا الثعلب حلال.
المسألة الثانية : حرم جمع حرام، وفيه ثلاثة أقوال : الأول : قيل حرم أي محرمون بالحج، وقيل : وقد دخلتم الحرم، وقيل : هما مرادان بالآية، وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف.
اللمسألة الثالثة : قوله ﴿لا تَقْتُلُوا ﴾ يفيد المنع من القتل ابتداء، والمنع منه تسبباً، فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرماً لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم، وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم، وإذا قلنا ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ يتناول الأمرين أعني من كان محرماً ومن كان داخلاً في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن قَتَلَه مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين ؛ ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله ﴿فَجَزَآءٌ﴾ قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل. ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل، في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى :﴿مِنَ النَّعَمِ﴾ يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء ؛ والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل، وأما سائر القراء فهم قرؤا ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ﴾ على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا : إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون : أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) والتقدير : ليس هو كشيء، وقال :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُه فِي الظُّلُمَـاتِ﴾ (الأنعام : ١٢٢) والتقدير : كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩