المسألة الثانية : قال سعيد بن جبير : المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء : يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى :﴿وَمَن قَتَلَه مِنكُم مُّتَعَمِّدًا﴾ مذكور في معرض الشرط، وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال : والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه ﴾ والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره، وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى :﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ (المائدة : ٩٦) ولما كان ذلك حرامالً بالاحرام صار فعله محظوراً بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمداً فكذا ههنا وأيضاً يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم، وقول الصحابة في الظبي شاة، وليس فيه ذكر العمد.
أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس.
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول، إلا أنهم اختلفوا في المثل، فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان : منه ما له مثل، ومنه ما لا مثل له، فما له مثل يضمن بمثله من النعم، وما لا مثل له يضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة.
وحجة الشافعي : القرآن، والخبر، والإجماع، والقياس، أما القرآن فقوله تعالى :﴿وَمَن قَتَلَه مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ والاستدلال به من وجوه أربعة : الأول : أن جماعة من القراء قرؤا ﴿فَجَزَآءٌ﴾ بالتنوين، ومعناه : فجزاء من النعم مماثل لما قتل/ فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص، وثانيها : أن قوماً آخرين قرؤا ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ﴾ بالإضافة، والتقدير : فجزاء ما قتل من النعم، أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم، فمن لم يوجبه فقد خالف النص، ثالثها : قراءة ابن مسعود ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ وذلك صريح فيما قلناه : ورابعها : أن قوله تعالى :﴿يَحْكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم، يجب أن يكون هدياً بالغ الكعبة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
فإن قيل : إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى.
قلنا : النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هدياً وأنتم تقولون : الواجب هو القيمة، ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هدياً يهدي إلى الكعبة، وإن شاء لم يفعل، فكان ذلك على خلاف النص، وأما الخبر : فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الضبع، أصيد هو ؟
فقال نعم، وفيه كبش إذا أخذه المحرم، وهذا نص صريح. وأما الاجماع : فهو أن الشافعي رحمه الله قال : تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى : أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بجفرة، وفي رواية بعناق، وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء، والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول. وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى. حجة ابي حنيفة رحمه الله تعالى : لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ هو القيمة في هذه الصورة، فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد.
والجواب : أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة.


الصفحة التالية
Icon