القول الثاني : وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى، أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء، فعلى هذا المراد : عفا الله عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء، ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم الله منه. وحجة هذا القول : أن الفاء في وقله ﴿فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه ﴾ فاء الجزاء، والجزاء هو الكافي، فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب، وكونه كافياً يمنع من وجوب شيء آخر، وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه.
المسألة الثانية : قال سيبويه في قوله ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه ﴾ وفي قوله ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلا﴾ (البقرة : ١٢٦) وفي قوله ﴿فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ﴾ (الجن : ١٣) إن في هذه الآيات إضماراً مقدراً والتقدير : ومن عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف، وبالجملة فلا بدّ من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبراً عنه، والدليل عليه : أن الفعل يصير بنفسه جزاء، فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغواً أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغواً والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
٤٣٧
قوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بالصيد المصيد، وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس، الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، واختلفوا فيما سوى هذين. فقال أبو حنيفة رحمه الله إنه حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال، وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية، والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار.
المسألة الثانية : أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوهاً :
الأول : وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع.
والوجه الثاني : أن صيد البحر هو الطري، وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحاً، لأنه لما صار عتيقاً سقط اسم الصيد عنه، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحاً فقد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار. والثالث : أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ، واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : السمكة الطافية في البحر محللة. وقال أبو حنيفة رحمه الله محرّمة : حجة الشافعي القرآن والخبر، أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاماً فوجب أن يحل لقوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه ﴾ وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر :"هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
المسألة الرابعة : قوله يعني أحلّ لكم صيد البحر للمقيم والمسافر، فالطري للمقيم، والمالح للمسافر.
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله ﴿مَتَـاعًا لَّكُمْ﴾ وجهان : الأول : قال الزجاج انتصب لكونه مصدراً مؤكداً إلا أنه لما قيل :﴿أُحِلَّ لَكُمُ﴾ كان دليلاً على أنه منعم به، كما أنه لما قيل ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ﴾ (النساء : ٢٣) كان دليلاً على أنه كتب عليهم ذلك فقال ﴿كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ (النساء : ٢٤) الثاني : قال صاحب "الكشاف" انتصب لكونه مفعولاً له، أي أحل لكم تمتيعاً لكم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٣٧
ثم قال تعالى :﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ (المائدة : ١) إلى قوله ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ﴾ (المائدة : ٢) ومن ثوله ﴿لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ (المائدة : ٩٥) إلى قوله ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾.
المسألة الثانية : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، فعلى هذا السلحفاة، والسرطان، والضفدع، وطير الماء، كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء.


الصفحة التالية
Icon