ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَا وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ قال المفسرون : إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه" والقصب المعا وجمعه الاقصاب، ويروي يجر قصبه في النار. قال ابن عباس : قوله ﴿وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيب في تحريمهم هذه الأنعام، والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب، فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون، فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٦
٤٤٨
والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة.
وأعلم أن الواو في قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار، وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون.
وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي، وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل، فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٨
٤٤٨
قوله تعالى :﴿يَهْتَدُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال :﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُا وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة : ٩٩) إلى قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ﴾ (المائدة : ١٠٤) فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه، فلا يضركم ضلالتهم وجهالتهم، فلهذا قال :﴿يَهْتَدُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾.
المسألة الثانية : قوله ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال. تقول العرب : عليك وعندك ودونك، فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل، وينصبون بها، فيقال : عليك زيداً كأنه قيل : خذ زيداً فقد علاك، أي أشرف عليك، وعندك زيداً، أي حضرك فخذه ودونك، أي قرب منك فخذه، فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب "الكشاف" ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ بالرفع عن نافع.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٨
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوها : أحدها : ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف، عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض، فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى، وثانيها : أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم. فقيل لهم : عليكم أنفسكم، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين، وثالثها : أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك، والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم :﴿تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ﴾ (المائدة : ١٠٤) ذكر تعالى هذه الآية، والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة، بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم، وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه.
المسألة الرابعة : فإن قيل : ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب.


الصفحة التالية
Icon