قلنا الجواب عنه من وجوه : الأول : وهو الذي عليه أكثر الناس، إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل، خطب الصديق رضي الله عنه فقال : إنكم تقرؤن هذه الآية ﴿يَهْتَدُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب".
والوجه الثاني في تأول الآية : ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ يكون هذا في آخر الزمان : قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها، ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً ووكل كل امرىء ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية، وهذا القول عندي ضعيف، لأن قوله ﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ خطاب عام، وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٨
والوجه الثالث في تأويل الآية : مال ذهب إليه عبد الله بن المبارك قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال :﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار، وهذا كقوله ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (البقرة : ٥٤) يعني أهل دينكم فقوله ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات، والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمراً بأننحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً.
والوجه الرابع : أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ، ولا يتركون الكفر، بسبب الأمر بالمعروف، فههنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف، والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين، حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين.
الوجه الخامس : أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله، فههنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل، وكان ابن شبرمة يقول : من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر.
الوجه السادس : لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك.
الوجه السابع :﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإنلم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم.
والوجه الثامن : أنه تعالى قال لرسوله ﴿فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ﴾ (النساء : ٨٤) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا ههنا.
المسألة الخامسة : قريء لا يضركم بفتح الراء مجزوماً على جواب قوله ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ وقريء بضم الراء، وفيه وجهان : أحدهما : على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل، والثاني : أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٨
ثم قال تعالى :﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ يريد مصيركم ومصير من خالفكم ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يعني يجازيكم بأعمالكم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٨
٤٥٤
ثم قال تعالى :﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى ا أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْمًا﴾ قال الليث رحمه الله : عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره. وأعثرت فلاناً على أمري أي أطلعته عليه، وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء، قال أهل اللغة : وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه، وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ (الكهف : ٢١) أي اطلعنا، ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة.
ثم قال تعالى :﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى ا أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْمًا فَـاَاخَرَانِ يَقُومَانِ﴾ وفيه مسائل :