والجواب عنه من وجوه : الأول : قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالاً بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور، فهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم. وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف، لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ﴾ (الأنبياء : ١٠٣) وقال أيضاً ﴿وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ (عبس : ٣٨، ٣٩) بل إنه تعالى قال :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَـارَى وَالصَّـابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا﴾ (البقرة : ٦٢) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون ألبتة. والوجه الثاني : أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان ؟
فيقول : أنت أعلم به مني، كأنه قيل : لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره، وهذا أيضاً ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم.
والوجه الثالث : في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أطهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم.
والوجه الرابع : في الجواب أنهم قالوا : لا علم لنا، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا. والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا. فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ يشهد بصحة هذين الجوابين.
الوجه الخامس : وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وقال عليه الصلاة والسلام :"إنكم لتختصمون لدي ولعلّ بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار" أو لفظ هذا معناه. فالأنبياء قالوا : لا علام لنا ألبتة بأحوالهم، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبراً في الدنيا، لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء، وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا ﴿لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ ﴾ ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٦
الوجه السادس : أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل، حكيم لا يسفه، عادل لا يظلم، علموا أن قولهم لا يفيد خيراً، ولا يدفع شراً فرأوا أن الأدب في السكوت، وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت.
المسألة الرابعة : قريء ﴿عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ بالنصب. قال صاحب "الكشاف" والتقدير أن الكلام قد تمّ بقوله ﴿إِنَّكَ أَنتَ﴾ أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة، من العلم وغيره. ثم نصب ﴿عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ على الاختصاص، أو على النداء، أو وصفاً لاسم إن.
المسألة الخامسة : دلّت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه. أما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٦
٤٥٨
قوله تعالى :﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل ﴿مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ (المائدة : ١٠٩) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملاملا النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله. والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم.