المسألة الثانية : موضع ﴿إِذْ﴾ يجوز أن يكون رفعاً بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال الله، ويجوز أن يكون المعنى اذكر إذ قال الله.
المسألة الثالثة : خرج قوله ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ﴾ على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه :
الأول : الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال : الجيش قد أتى، إذا قرب إتيانهم. قال الله تعالى :﴿أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ﴾ (النحل : ١) الثاني : أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته. ونظيره من القرآن قوله تعالى :﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ﴾ (سبأ : ٥١) ﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ا الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ (الأنفال : ٥٠) ﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ (سبأ : ٣١) والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه، من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٨
المسألة الرابعة :﴿وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ يجوز أن يكون ﴿عِيسَى﴾ في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، وأنشد النحويون :
يا حكم بن المنذر بن الجارود
برفع الأول ونصبه على ما بيناه.
المسألة الخامسة : قوله ﴿نِعْمَتِى عَلَيْكَ﴾ أراد الجمع كقوله ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾ (النحل : ١٨) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس.
واعلم أن الله تعالى فسّر نعمته عليه بأمور : أولها : قوله ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وفيه وجهان : الأول : روح القدس هو جبريل عليه السلام، الروح جبريل والقدس هو الله تعالى/ كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له. الثاني : أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية، ومنها مشرقة، ومنها كدرة، ومنها خيرة، ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :"الأرواح جنود مجندة" فالله تعالى خصّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة. ولقائل أن يقول : لما دلّت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به، قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك، على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوّة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل، فيلزم الدور وجوابه : ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال.
وثانيها : قوله تعالى :﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا ﴾ أما كلام عيسى في المهد فهو قوله ﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَـاـانِىَ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى﴾ (مريم : ٣٠) وقوله ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا ﴾ في موضع الحال. والمعنى : يكلمهم طفلاً وكهلاً من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٨
وثالثها : قوله تعالى :﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ ﴾ وفي ﴿الْكِتَـابِ﴾ قولان : أحدهما : المراد به الكتابة وهي الخط. والثاني : المراد منه جنس الكتب. فإن الإنسان يتعلم أولاً كتباً سهلة مختصرة، ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة. وأما ﴿الْحِكْمَةَ﴾ فهي عبارة عن العلوم النظرية، والعلوم العملية. ثم ذكر بعده ﴿التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ﴾ وفيه وجهان : الأول : أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله ﴿حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى ﴾ (البقرة : ٢٣٨) وقوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ (الأحزاب : ٧) والثاني : وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية، لا يحصل إلا لمن صار بانياً في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء. فقوله ﴿وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ ﴾ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ورابعها : قوله تعالى :﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع ﴿فَتَكُونُ﴾ والباقون ﴿عَلَيْهِمْ طَيْرًا﴾ بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب.
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر ههنا ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ وذكر في آل عمران ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ﴾ (آل عمران : ٤٩).


الصفحة التالية
Icon